فصل: من فوائد أبي السعود في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} أي بأنه منزلٌ من عند الله عز وجل، وهو معطوف على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصودَ عطفُ نفس الأمرِ حتى يُطلبَ له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه، بل على أنه عطفُ قصةِ المؤمنين بالقرآن، ووصفِ ثوابهم، على قصة الكافرين به وكيفيةِ عقابهم، جريًا على السُنة الإلهية من شفْع الترغيب بالترهيب، والوعدِ بالوعيد، وكان تغييرُ السبك لتخييل كمالِ التباين بين حالي الفريقين، وقرئ وبُشرِّ على صيغة الفعل مبنيًا للمفعول عطفًا على أعِدَّت، فيكونُ استئنافًا، وتعليقُ التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح، لكن لا لذاتهما، فإنهما لا يكافِئان النعمَ السابقة فضلًا من أن يقتضِيا ثوابًا فيما يستقبل، بل بجعل الشارعِ، ومقتضى وعدِه وجعل صلتِه فعلًا مفيدًا للحدوث بعد إيرادِ الكفارِ بصيغة الفاعل لحثِّ المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان، وتحذيرِهم من الاستمرار على الكفر، والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل من يتأتَّى منه التبشير، كما في قوله عليه السلام: «بشر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة» فإنه عليه السلام لم يأمُر بذلك واحدًا بعينه بل كلَّ أحد ممن يتأتى منه ذلك، وفيه رمزٌ إلى أن الأمر لعِظَمه وفخامة شأنه حقيقٌ بأن يتولى التبشيرَ به كلُّ من يقدر عليه، والبِشارة الخبرُ السار الذي يظهر به أثر السرور في البشرة، وتباشيرُ الصبح أوائلُ ضوئه {وَعَمِلُواْ الصالحات} الصالحة كالحسنة في الجريان مَجرى الاسم، وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقلِ، واللام للجنس، والجمعُ لإفادة أن المرادَ بها جملةٌ من الأعمال الصالحة التي أشير إلى أمهاتها في مطلع السورةِ الكريمة، وطائفةٌ منها متفاوتةٌ حسبَ تفاوتِ حال المكلفين في مواجب التكليف، وفي عطف العملِ على الإيمان دلالةٌ على تغايرهما وإشعارٌ بأن مدار استحقاقِ البشارةِ مجموعُ الأمرين، فإن الإيمان أساسٌ والعملُ الصالح كالبناء عليه ولا غَناءَ بأساس لا بناءَ به.
{أَنَّ لَهُمْ جنات} منصوبٌ بنزع الخافض وإفضاءِ الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل: الله لأفعلنّ والجنةُ هي المرة من مصدر جَنَّه إذا ستره، تُطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانِه، قال زهير:
كأنّ عينَيَّ في غَرْبيِّ مقتلة ** من النواضِحِ تسقي جنةً سَحَقا

أي نخلًا طوالًا كأنها لفرطِ تكاثفِها والتفافِها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفسُ السُترة وعلى الأرض ذاتُ الشجر، قال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفِردوسُ ما فيه الكَرْم، فحقُ المصدر حينئذ أن يكونَ مأخوذًا من الفعل المبني للمفعول وإنما سميت دارَ الثواب بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغُرفات والقصور لما أنها مناطُ نعيمها، ومعظمُ ملاذها، وجمعها مع التنكير لأنها سبعٌ على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما: جنةُ الفردوس، وجنة عدْن، وجنة النعيم، ودارُ الخلد، وجنةُ المأوى، ودارُ السلام، وعِلِّيُّون.
وفي كل واحدة منها مراتبُ ودرجاتٌ متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها.
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} في حيز النصب على أنه صفةُ جنات. فإن أريد بها الأشجارُ فجريانُ الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرضُ المشتملة عليها فلابد من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارِها وإن أريد بها مجموعُ الأرض والأشجار فاعتبارُ التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهِرِ المصحِّح لإطلاق اسم الجنة على الكل.
عن مسروق: أن أنهارَ الجنة تجري في غير أخدود، واللامُ في الأنهار للجنس، كما في قولك: لفلان بستانٌ فيه الماءُ الجاري والتينُ والعنب، أو عِوَضٌ عن المضاف إليه كما في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْبًا} أو للعهد، والإشارة إلى ما ذكر في قوله عز وعلا: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} الآية. والنهَرُ بفتح الهاء وسكونها المجرَى الواسعُ فوق الجَدْول ودون البحر كالنيل والفرات، والتركيبُ للسَّعة، والمرادُ بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللغوي، أو المجاري أنفسُها، وقد أسند إليها الجريانُ مجازًا عقليًا كما في سال الميزاب.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا} صفة أخرى لجنات، أخِّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصفٌ لها باعتبار ذاتها، وهذا وصفٌ لها باعتبار أهلِها المتنعِّمين بها، أو خبرُ مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة، كأنه حين وُصفت الجناتُ بما ذكر من الصفة وقع في ذهن السامع أثمارها كثمار جناتِ الدنيا أولًا، فبيّن حالُها، و{كلما} نصبٌ على الظرفية، ورزقًا مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقعَ الحال، كأنه قيل: كلَّ وقت رزقوا، مرزوقًا مبتدأ، من الجنات مبتدًا من ثمرة على أن الرزق مقيدٌ بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها مقيدٌ بكونه مبتدًا من ثمرة، فصاحبُ الحال الأولى رزقًا، وصاحبُ الثانية ضميرُه المستكنّ في الحال، ويجوز كونُ {من ثمرة} بيانًا قُدّم على المبين كما في قولك: رأيت منك أسدًا، وهذا إشارةٌ إلى ما رزقوا، وإن وقعت على فرد معين منه كقولك مشيرًا إلى نهر جارٍ: هذا الماءُ لا ينقطع، فإنك {إنما} أشرتَ إلى ما تعايِنهُ بحسب الظاهر لكنك إنما تعني بذلك النوعَ المعلومَ المستمر، فالمعنى هذا مثلُ الذي رزقناه {مِن قَبْلُ} أي من قبل هذا في الدنيا، ولكن لما استحكم الشبَهُ بينهما جُعل ذاتُه ذاتَه، وإنما جُعل ثمرُ الجنة كثمار الدنيا لتميل النفسُ إليه حين تراه، فإن الطباعَ مائلة إلى المألوف متنفِّرة عن غير المعروف، وليتبين لها مزّيته وكُنهُ النعمة فيه إذ لو كان جنسًا غيرَ معهود لظُن أنه لا يكون إلا كذلك أو مثلُ الذي رُزقناه من قبل في الجنة لأن طعامَها متشابهُ الصور كما يحكى عن الحسن رضي الله عنه أن أحدَهم يؤتى الصَّحْفة فيأكلُ منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثلَ الأولى فيقول ذلك: فيقول الملكُ: كلْ فاللونُ واحدٌ والطعمُ مختلف، أو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده إن الرجلَ من أهل الجنة ليتناول الثمرةَ ليأكُلَها فما هي واصلةٌ إلى فيه حتى يُبدِّلَ الله تعالى مكانها مثلَها» والأول أنسبُ لمحافظة عمومِ كلما، فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالةَ كلَّ مرة رزقوا لا فيما عدا المرةَ الأولى يُظهرون بذلك التبجحَ، وفرطَ الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذةُ مع اتحادهما في الشكل واللون، كأنهم قالوا: هذا عينُ ما رُزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبةُ من اللذة والطيب.
ولا يقدُح فيه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه ليس في الجنة من أطعمة في الدنيا إلا الاسمُ، فإن ذلك لبيان كمالِ التفاوتِ بينهما من حيث اللذةُ والحُسنُ والهيئة لا لبيانِ ألا تشابُهَ بينهما أصلًا، كيف لا وإطلاقُ الأسماء منوطٌ بالاتحاد النوعيّ قطعًا، هذا وقد فُسّرت الآيةُ الكريمة بأن مستلذاتِ أهلِ الجنة بمقابلة ما رزقوه في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتةُ الحال، فيجوز أن يريدوا هذا ثوابُ الذي رزقناه في الدنيا من الطاعات، ولا يساعده تخصيصُ ذلك بالثمرات، فإن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من قبيل الثواب.
{وَأُتُواْ بِهِ متشابها} اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله والضميرُ المجرورُ على الأول راجعٌ إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا في الدارين كما في قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فالله أولى بِهِمَا} أي بجنسي الغني والفقير، وعلى الثاني إلى الرزق {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيْض والدَرن ودنَس الطبع وسوءِ الخلق، فإن التطهرَ يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال، وقرئ مطهَّراتٌ، وهما لغتان فصيحتان، يقال: النساءُ فعلت وفعلن وهن فاعلةٌ وفواعل، وقال:
وإذا العذارى بالدُّخان تقنَّعت ** واستعجلت نصبَ القدور فمَلَّتِ

فالجمع على اللفظ، والإفراد على تأويل الجماعة، وقرئ: {مطَّهِرة} بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطَّهِرة أبلغُ من طاهرة ومتطهرة، للإشعار بأن مُطَهِّرًا طهرهن، وما هو إلا الله سبحانه وتعالى. وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن، والزوجُ يطلق على الذكر والأنثى، وهو في الأصل اسم لما له قرينٌ من جنسه، وليس في مفهومه اعتبارُ التوالد الذي هو مدارُ بقاءِ النوعِ حتى لا يصِحَّ إطلاقُه على أزواج أهلِ الجنة لخلودهم فيها، واستغنائهم عن الأولاد، كما أن المداريةَ لبقاء الفردِ ليست بمعتبرة في مفهومِ اسمِ الرزق حتى يُخِلَّ ذلك بإطلاقه على ثمار الجنة.
{وَهُمْ فِيهَا خالدون} أي دائمون، والخلودُ في الأصل الثباتُ المديد دامَ أو لم يدُمْ، ولذلك قيل: للأثافي والأحجارِ الخوالدُ وللجُزءِ الذي يبقى من الإنسان على حاله خالد، ولو كان وضعه للدوام لما قُيِّد بالتأبيد في قوله عز وعلا: {خالدين فِيهَا أَبَدًا} ولَما استُعمل حيث لا دوام فيه لكن المرادَ هاهنا الدوامُ قطعًا لما يُفضي به من الآيات والسنن، وما قيل من أن الأبدانَ مؤلفةٌ من الأجزاءِ المتضادة في الكيفية معرَّضة للاستحالات المؤديةِ إلى الانحلال والانفكاكِ مدارُه قياسُ ذلك العالمِ الكاملِ بما يشاهَد في عالم الكوْن والفساد، على أنه يجوز أن يُعيدَها الخالق تعالى بحيث لا يعتوِرُها الاستحالة، ولا يعتريها الانحلالُ قطعًا، بأن تُجعلَ أجزاؤها متفاوتةً في الكيفيات متعادلةً في القوى، بحيث لا يقْوَى شيءٌ منها عند التفاعُل على إحالةِ الآخر، متعانقةً متلازمةً لا ينفك بعضُها عن بعض، وتبقى هذه النسبةُ متحفظةً فيما بينها أبدًا لا يعتريها التغيرُ بالأكل والشرب والحركات وغيرِ ذلك.
واعلم أن معظمَ اللذاتِ الحسية لما كان مقصورًا على المساكن والمطاعم والمناكِح حسبما يقضي به الاستقراءُ، وكان مَلاكُ جميع ذلك الدوامَ والثباتَ إذ كلُّ نعمة وإن جلت حيث كانت في شرف الزوال ومعرِضِ الاضمحلال فإنها منغِّصةٌ غيرُ صافيةٍ من شوائب الألم بَشَّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلًا للبهجة والسرور، اللهم وفقنا لمراضيك، وثبتنا على ما يؤدي إليها من العقْد والعمل. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
ومناسبة قوله تعالى: {وبشر} لما قبله ظاهره، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تؤول إليه حالهم في الآخرة، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم وما أعد الله لهم في الآخرة من النعيم السرمدي.
وهكذا جرت العادة في القرآن غالبًا متى جرى ذكر الكفار وما لهم أعقب بالمؤمنين وما لهم وبالعكس، لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد واللطف والعنف، لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ويجذبه اللطف، ومنهم من هو بالعكس.
والمأمور بالتبشير قيل: النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من يصلح للبشارة من غير تعيين.
قال الزمخشري: وهذا أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به، انتهى كلامه.
والوجه الأول عندي أولى، لأن أمره صلى الله عليه وسلم لخصوصيته بالبشارة أفخم وأجزل، وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع، بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الإخبار بهذه البشارة العظيمة، إذ تبشيره صلى الله عليه وسلم تبشير من الله تعالى.
والصالحات: جمع صالحة، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل، قال الحُطيئة:
كيف الهجاء وما ينفك صالحة ** من آل لام بظهر الغيب تأتيني

فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات، لكن يعمل جملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف.
والفرق بين لام الجنس إذا دخلت على المفرد، وبينها إذا دخلت على الجمع، أنها في المفرد يحتمل أن يراد بها واحد من الجنس، وفي الجمع لا يحتمله.
قال عثمان بن عفان: الصالح ما أخلص لله تعالى، وقال معاذ بن جبل: ما احتوى على أربعة: العلم والنية والصبر والإخلاص، وقال سهل بن عبد الله: ما وافق الكتاب والسنة، وقال علي بن أبي طالب: الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانها وهيئاتها، وقيل: الأمانة، وقيل: التوبة والاختيار، قول الجمهور: وهو كل عمل صالح أريد به الله.
قال ابن عطية: وفي قوله تعالى: {وعملوا الصالحات} ردّ على من يقول: إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها، انتهى كلامه.
وفي ذلك أيضًا دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات، وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشرًا.
من هذه الآية: وبشر يتعدى لمفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بإسقاط حرف الجر.
فقوله: {أن لهم جنات} هو في موضع هذا المفعول، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياسًا مطردًا، واختلفوا بعد حذف الحرف، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب؟ فمذهب الخليل والكسائي: أن موضعه جر، ومذهب سيبويه والفراء: أن موضعه نصب، والاستدلال في كتب النحو.
وجنات: جمع جنة، جمع قلة، فروي عن ابن عباس أنها سبع جنات.
وقال قوم: هي ثمان جنات.
وزعم بعض المفسرين أن في تضاعيف الكتاب والسنة ما يدل على أنها أكثر من العدد الذي أشار إليه ابن عباس وغيره، قال: فإنه قال: {إن المتقين في جنات ونهر} {ولمن خاف مقام ربه جنتان} {ومن دونهما جنتان} {عندها جنة المأوى} {جنات عدن} وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» وهذا الذي أورده هذا المفسر لا يدل على أنها أكثر مما روي عن ابن عباس.
وقال الزمخشري: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان، انتهى كلامه.
وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله: على حسب استحقاق العاملين.
وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس، واللام في لهم للاختصاص، وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا، فهو أسر للسامع، والشائع أنه إذا كان الاسم نكرة تعين تقديمه {أئن لنا لأجرًا} ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه، وذلك مفهوم من غير هذه الآية.
وأما الزمخشري فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل، أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية، وزعم أن اشتراط ذلك كالداخل تحت الذكر.
وقد علم من مذهب أهل السنة أن من وافى على الإيمان فهو من أهل الجنة، سواء كان مرتكبًا كبيرة أم غير مرتكب، تائبًا أو غير تائب، ومن قال: إن من زائدة والتقدير تجري تحتها، أو بمعنى في، أي في تحتها، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية، بل هي متعلقة بتجري، وهي لابتداء الغاية.
وإذا فسرنا الجنات بأنها الأشجار الملتفة ذوات الظل، فلا يحتاج إلى حذف.
وإذا فسرناها بالأرض ذات الأشجار، احتاج، إذ يصير التقدير من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها.
وقيل: عبر بتحتها عن أسافلها وأصولها.
وقيل: المعنى في تجري من تحتها: أي بأمر سكانها واختيارهم، فعبر بتحتها عن قهرهم لها وجريانها على حكمهم، كما قيل فيم قوله تعالى، حكاية عن فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} أي بأمري وقهري.
وهذا المعنى لا يناسب إلا لو كانت التلاوة: أن لهم جنات تجري من تحتهم، فيكون نظير من تحتي إذا جعل على حذف مضاف، أي من تحت أهلها، استقام المعنى الذي ذكر أنه لا يناسب، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها.
وقيل: المعنى في من تحتها: من جهتها.
وقد روي عن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة.
وإذا صح هذا النقل، فهو أبلغ في النزهة، وأحلى في المنظر، وأبهج للنفس.
فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافيًا وماؤه صافيًا منسابًا على وجه أرضه، لاسيما الجنة، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ، فتنكسر تلك المياه على ذلك الحصى، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلئ له خريرًا، قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي، رحمه الله تعالى، من كلمة:
وتحدث الماء الزلال مع الحصى ** فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعده» ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن} الآية.
ولما كانت الجنة لا تشوق، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعًا بذكر الأنهار، مقدمًا هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف.
قال ابن عطية: نسب الجري إلى النهر، وإنما يجري الماء وحده توسعًا وتجوزًا، كما قال تعالى: {واسئل القرية} وكما قال الشاعر:
نبئت أن النار بعدك أوقدت ** واستب بعدك يا كليب المجلس

انتهى كلامه.
وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال: والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، انتهى كلامه.
والألف واللام في الأنهار للجنس، قال الزمخشري: أو يراد أنهارها، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبًا} وهذا الذي ذكره الزمخشري، وهو أن الألف واللام تكون عوضًا من الإضافة، ليس مذهب البصريين، بل شيء ذهب إليه الكوفيون، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى: {مفتحة لهم الأبواب} أي أبوابها.
وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفًا، أي الأبواب منها، ولو كانت الألف واللام عوضًا من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام، وقال الشاعر:
قطوب رحيب الجيب منها رقيقة ** بجس الندامى بضة المتجرد

ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال.
وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة، إن قلنا: إن الألف واللام فيها للعهد، أو إشارة إلى أنهار الماء، وهي أربعة أو خمسة، في الصحيح.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة فقال: «نهران باطنان: الفرات والنيل، ونهران ظاهران: سيحان وجيحان» وفي رواية سيحون وجيحون، وعن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء الكوثر قال: «ذاك نهر أعطانيه الله تعالى، يعني في الجنة، ماؤه وأشدّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل» الحديث.
وإن كانت أنهارًا كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة، كما جاء العكس على جهة التوسع والمجاز لاشتراكهما في الجمعية.
{كلما رزقوا} تقدّم الكلام على كلما عند قوله تعالى: {كلما أضاء لهم} وبينا كيفية التكرار فيها على خلاف ما يفهم أكثر الناس، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وأنه لما ذكر أن من آمن وعمل الصالحات لهم جنات صفتها كذا، هجس في النفوس حيث ذكرت الجنة الحديث عن ثمار الجنات، وتشوقت إلى ذكر كيفية أحوالها، فقيل لهم: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} قالوا: هو العامل في كلما، وهذا الذي: مبتدأ معمول للقول.
فالجملة في موضع مفعول، والمعنى: هذا، مثل: الذي رزقنا، فهو من باب ما الخبر شبه به المبتدأ، وإنما احتيج إلى هذا الإضمار، لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم إن رزقوه، ثم هذه المثلية المقدرة حذفت لاستحكام الشبه، حتى كأن هذه الذات هي الذات، والعائد على الذي محذوف، أي رزقناه، ومن متعلقة برزقًا، وهي لابتداء الغاية.
وقيل: مقطوع عن الإضافة، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله: أي من قبل المرزوق.
واختلف المفسرون في تفسير ذلك، فقال ابن عباس، والضحاك، ومقاتل: معناه رزق الغداة كرزق العشي.
وقال يحيى بن أبي كثير، وأبو عبيد: ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله، فإذا رأوا ما خلف المجني اشتبه عليهم.
فقالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، وقال مجاهد، وابن زيد: يعني بقوله: من قبل في الدنيا، والمعنى أنه مثله في الصورة، فالقبلية على القولين الأولين تكون في الجنة، وعلى هذا القول تكون في الدنيا.
وقال بعض المفسرين: معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة، فعلى هذا القول يكون المبتدأ، هو نفس الخبر، ولا يكون التقدير مثل: وعبر عن الوعد بمتعلقه وهو الرزق، وهو مجاز، فلصدق الوعد به صار كأنهم رزقوه في الدنيا، وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضًا مجاز، إلا أن هذا المجاز أكثر وأسوغ.
وعلى هذا القول تكون القبلية أيضًا في الدنيا، لأن الوعد وقع فيها إلا أن كون القبلية في الدنيا يبعده دخول من على قبل لأنها لابتداء الغاية، فهذا موضع قبل لا موضع من، لأن بين الزمانين تراخيًا كثيرًا، ومن تشعر بابتداء القبلية فتنافي التراخي والابتداء.
وإذا كانت القبلية في الآخرة كان في ذلك إشكال من حيث إن الرزق الأول الذي رزقوه لا يكون له مثل رزقوه قبل لأن الفرض أنه أول، فإذا كان أول لم يكن قبله شيء رزقوه.
قال ابن عطية: هذا إشارة إلى الجنس، أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل، انتهى كلامه.
وليس هذا إشارة إلى الجنس، بل هذا إشارة إلى الرزق.
وكيف يكون إشارة إلى الجنس وقد فسر قوله بعد من الجنس الذي رزقناه من قبل؟ فكأنه قال: هذا الجنس من الجنس الذي رزقنا من قبل، وأنت ترى هذا التركيب كيف هو.
ولعل الناقل صحف مثل بمن، فكان التقدير هذا الجنس مثل الجنس الذي رزقنا من قبل، وإلا ظهر أنه تصحيف، لأن لتقدير من الجنس بعيد، وإنما يصح ذلك على ضرب من التجوز من إطلاق كل، ويراد به بعض فتقول: هذا من بني تميم، ثم تتجوز فتقول: هذا بنو تميم، تجعله كل بني تميم مجازًا توسعًا.
ومعمول القول جملة خبرية يخاطب بها بعضهم بعضًا، وليس ذلك على معنى التعجب، قاله: جماعة.
وقال ابن عباس: يقولون ذلك على طريق التعجب.
قال الحسن ومجاهد: يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها، والطعم مختلف، فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضًا.
قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة.
وقراءة الجمهور: وأتوا مبنيًا للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، وهو الخدم والولدان.
يبين ذلك قراءة هارون الأعور والعتكي.
وأتوا به على الجمع، وهو إضمار لدلالة المعنى عليه.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق} إلى قوله تعالى: {وفاكهة مما يتخيرون} فدل ذلك على أن الولدان هم الذين يأتون بالفاكهة، والضمير في قوله تعالى: {به} عائد على الرزق، أي: وأتوا بالرزق الذي هو من الثمار، كما أن هذا إشارة إليه.
قال الزمخشري: قال قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: وأتوا به؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة، لأن قوله: {هذا الذي رزقنا من قبل} انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين، انتهى كلامه.
أي لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على المرزوقين معًا.
ألا ترى أنك إذا قيل: زيد مثل حاتم، كان منطويًا على ذكر زيد وحاتم؟ وما ذكره الزمخشري غير ظاهر الآية، لأن ظاهر الكلام يقتضي أن يكون الضمير عائدًا على مرزوقهم في الآخرة فقط، لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل، مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين أن لا يعود الضمير إلا إلى المرزوق في الجنة، كأنه قال: وأتوا بالمرزوق في الجنة متشابهًا، ولاسيما إذا أعربت الجملة حالًا، إذ يصير التقدير قالوا: هذا مثل الذي رزقنا من قبل.
وقد أتوا به متشابهًا، أي قالوا ذلك في هذه الحال، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابهًا.
ومجيء الجملة المصدرة بماض حالًا ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام.
قال تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم} أي وقد كنتم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا، أي وقد قعدوا.
وقال الذي نجا منهما: {وادَّكر بعد أمة} أي وقد ادّكر إلى غير ذلك مما خرج على أنه حال، وكذلك أيضًا لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذا كانت الجملة معطوفة على قوله تعالى: {قالوا هذا الذي رزقنا من قبل} لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضيًا معنى لازمًا في حيز كلما، والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى، وإن كان ماضي اللفظ لأنها لا تخلو من معنى الشرط.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الإخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابهًا.
وقول الزمخشري في عود الضمير إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لا يظهر أيضًا، لأن هذه الجمل إنما جاءت محدثًا بها عن الجنة وأحوالها، وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه، ليس من حديث الجنة إلا بتكلف.
فالظاهر ما ذكرناه أولًا من عود الضمير إلى الذي أشير إليه بهذا فقط، وانتصب متشابهًا على الحال من الضمير في به، وهي حال لازمه، لأن التشابه ثابت له، أتوا به أو لم يؤتوا به، والتشابه قيل: في الجودة والخيار، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء، قاله قتادة، وذلك كقوله تعالى: {كتابًا متشابهًا} قال ابن عطية: كأنه يريد متناسبًا في أن كل صنف هو أعلى جنسه، فهذا تشابه مّا أو في اللون، وهو مختلف في الطعم، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، أو في الطعم واللذة والشهوة، وإن اختلفت ألوانه، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم، أو متشابه بثمر الدنيا في الصورة لا في القدر والطعم، قاله عكرمة وغيره.
وروى ابن المبارك حديثًا يرفعه.
قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم.
أقبل أعرابي يومًا فقال: يا رسول الله، ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة مؤذية تؤذي صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هي؟» قال: السدرة، فإن لها شوكًا مؤذيًا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس يقول في سدر مخضود، خضد الله الشوك، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرًا يفتق من الثمرة منها على اثنين وسبعين لونًا طعامًا ما فيه لون يشبه الآخر؟» واختار الزمخشري أن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا، وأطلق القول في كونه كان مشابهًا لثمر الدنيا، ولم يكن أجناسًا أخر.
وملخص ما ذكر أن الإنسان يأنس بالمألوف، وإذا رأى غير المألوف نفر عنه طبعه، وإذا ظفر بشيء مما ألفه وظهر له فيه مزية، وتفاوت في الجنس، سر به واغتبط بحصوله.
ثم ذكر ما ورد في مقدار الرمانة والنبقة والشجرة وكيفية نخل الجنة والعنقود والأنهار ما يوقف عليه في كتابه.
وليس في الآية ما يدل على ما اختاره الزمخشري.
والأظهر أن يكون المعنى ثبوت التشابه له، ولم يقيد التشابه بل أطلق، فتقييده يحتاج إلى دليل.
ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي، ذكرها الله تعالى فيما يبشر به المؤمنون.
وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام، ثم ذكر ثالثًا الأزواج لأن بها تمام الالتئام، فقال تعالى: {ولهم فيها أزواج} والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة.
كما اخترنا في قوله: {كلما رزقوا} لأن جعلها استئنافًا يكون في ذلك اعتناء بالجملة، إذ سيقت كلامًا تامًا لا يحتاج إلى ارتباط صناعي، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلك غير ما هو أصل للحمل.
وارتفاع أزواج على الابتداء، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه من الاستئناف أيضًا، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر.
والأزواج من جموع القلة، لأن زوجًا جمع على زوجة نحو: عود وعودة، وهو من جموع الكثرة، لكنه ليس في الكثير من الكلام مستعملًا، فلذلك استغنى عنه بجمع القلة توسعًا وتجوزًا.
وقد ورد في الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج من الحور وغيرهم.
وأريد هنا بالأزواج: القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره.
ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة.
وقرأ زيد بن علي: مطهرات، فجمع بالألف والتاء على طهرن.
قال الزمخشري: هما لغتان فصيحتان، يقال: النساء فعلن، وهن فاعلات، والنساء فعلت، وهي فاعلة، ومنه بيت الحماسة:
وإذا العذارى بالدخان تقنت ** واستعجلت نصب القدور فملت

والمعنى: وجماعة أزواج مطهرة، انتهى كلامه.
وفيه تعقب أن اللغة الواحدة أولى من الأخرى، وذلك أن جمع ما لا يعقل، إما أن يكون جمع قلة، أو جمع كثرة إن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، نحو: الأجذاع انكسرن، ويجوز أنكسرت، وكذلك إذا كان ضميرًا عائدًا على جمع العاقلات الأولى فيه النون من التاء، فإذا بلغن أحلهن، والوالدات يرضعن، ولم يفرقوا في ذلك بين جمع القلة والكثرة كما فرقوا في جمع ما لا يعقل.
فعلى هذا الذي تقرر تكون قراءة زيد الأولى إذ جاءت في الظاهر على ما هو أولى.
ومجيء هذه الصفة مبنية للمفعول، ولم تأت ظاهرة أو ظاهرات، أفخم لأنه أفهم أن لها مظهرًا وليس إلا الله تعالى.
وقراءة عبيد بن عمير مطهرة، وأصله متطهرة، فأدغم.
وفي كلام بعض العرب ما أحوجني إلى بيت الله فاطهر به أطهرة، أي: فأتطهر به تطهرة، وهذه القراءة مناسبة لقراءة الجمهور، لأن الفعل مما يحتمل أن يكون مطاوعًا نحو: طهرته فتطهر، أي أن الله تعالى طهرهن فتطهرن.
وهذه الأزواج التي وصفها الله بالتطهيران كن من الحور العين، كما روي عن عبد الله.
فمعنى التطهير: خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي وإن كن من بني آدم، كما روي عن الحسن: عن عجائزكم الرمص العمص يصرن شواب، فقيل: مطهرة من العيوب الذاتية وغير الذاتية، وقيل: مطهرة من الأخلاق السيئة والطبائع الرديئة، كالغضب والحدة والحقد والكيد المكر، وما يجري مجرى ذلك، وقيل: مطهرة من الفواحش والخنا والتطلع إلى غير أزواجهن، وقيل: مطهرة من الأدناس الذاتية، مثل الحيض والنفاس والجنابة والبول والتغوط وغير ذلك من المقادير الحادثة عن الأعراض المنقبلة إلى فساد: كالبخر والذفر والصنان والقيح والصديد، أو إلى غير فساد: كالدمع والعرق والبصاق والنخامة.
وقيل: مطهرة من مساوئ الأخلاق، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن.
وقال النخعي: الولد.
وقال يمان: من الإثم والأذى، وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى: {مطهرة} لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهرات من كل ما يشين، لأن من طهره الله تعالى ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة.
ولما ذكر تعالى مسكن المؤمنين ومطعهمهم ومنحكهم، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال، ولذلك قيل:
أشد الغم عندي في سرور ** تيقن عنه صاحبه ارتحالا

أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم، فقال تعالى: {وهم فيها خالدون}.
وقد تقدم ذكر الخلاف في الخلود، وأن المعتزلة تذهب إلى أنه البقاء الدائم الذي لا ينقطع أبدًا، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل، انقطع أو لم ينقطع، وأن كون نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع، ليس مستفادًا من لفظ الخلود بل من آيات من القرآن وأحاديث صحاح من السنة، قال تعالى: {خالدين فيها أبدًا} وقال تعالى: {وما هم منها بمخرجين} وفي الحديث: «يا أهل الجنة خلود بلا موت» وفي حديث أخرجه مسلم في وصف أهل الجنة: «وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا» إلى غير ذلك من الآي والأحاديث. اهـ. بتصرف يسير.